الخطبة 18: في ذمّ اختلاف العلماء في الفتيا
ومن كلام له (عليه السلام) في ذمّ اختلاف العلماء في الفتيا([1])
[وفيه يذم أهل الرأي ويكل أمر الحكم في أمور الدين للقرآن]تَـرِدُ عَلَى أحَدِهِمُ القَضِيَّةُ في حُكْمٍ مِنَ الأحْكَامِ فَيَحْكُمُ فِيهَا بِرَأْيِـهِ ، ثُمَّ تَرِدُ تِلْكَ القَضِيَّةُ بِعَيْنِهَا عَلَى غَيْرِهِ فَيَحْكُمُ فِيها بِخِلَافِ قَوْلِهِ، ثُمَّ يَجْتَمِعُ القُضَاةُ بِذلِكَ عِنْدَ إمامِهِمُ الَّذِي اسْتَقْضَاهُم، فَيُصَوِّبُ آرَاءَهُمْ جَمِيعاً، وَإِلٰـهُهُمْ وَاحِدٌ، وَنَبِيُّهُمْ وَاحِدٌ، وَكِتَابُهُمْ وَاحِدٌ.
أَفَأَمَرَهُمُ اللهُ ـ سُبْحَانَهُ ـ بِالاخْتِلَافِ فَأَطَاعُوهُ! أَمْ نَهَاهُمْ عَنْهُ فَعَصَوْهُ! أَمْ أَنْزَلَ اللهُ سُبْحَانَهُ دِيناً نَاقِصاً فَاسْتَعَانَ بِهِمْ عَلَى إِتْمَامِهِ! أَمْ كَانُوا شُرَكَاءَ لَهُ فَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا وَعَلَيْهِ أَنْ يَرْضَى! أَمْ أَنْزَلَ اللهُ سُبْحَانَهُ دِيناً تَامّاً فَقَصَّرَ الرَّسُولُ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) عَنْ تَبْلِيغِهِ وَأَدَائِهِ؛ وَاللهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: (مَا فَرَّطْنَا في الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) وَفِيهِ تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ، وَذَكَرَ أَنَّ الكِتَابَ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضاً، وَأَنَّهُ لا اخْتِلافَ فِيهِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً).
وَإِنَّ القُرآنَ ظَاهِرُهُ أَنِيقٌ، وَبَاطِنُهُ عَمِيقٌ، لا تَفْنَى عَجَائِبُهُ، وَلاَتَنْقَضِي غَرَائِبُهُ، وَلا تُكْشَفُ الظُّلُمَاتُ إلَّا بِهِ.
[1] ـ رواه الشيخ الطبرسي (ت560) في الاحتجاج 1: 389 من دون سند.
وقد زعم ابن أبي الحديد في شرحه 1: 290 انتحال هذا الكلام من قبل الإمامية; لأنّه يوافق مذهبهم في نفي القياس والرأي، ذكر ذلك نقلاً عن أصحابه ولم يغمز فيه ممّا يدلّ على تبنّيه له أيضاً، ويتلخّص كلامهم في نقاط: 1 ـ اجماع الصحابة على صحة الاجتهاد والقياس 2 ـ انّ أميرالمؤمنين (عليه السلام) كان يجتهد ويقيس 3 ـ انّه معارض بما ترويه الزيدية عنه وعن أبنائه في صحة القياس والاجتهاد، ولا فرق بين الزيدية والإمامية في مخالطتهم للأئمة ومعرفتهم بأقوالهم 4 ـ إذا تعارضت الروايتان تساقطتا وعدنا إلى الأدلّة المذكورة في هذه المسألة.
ويلاحظ عليه أولاً: انّ ادّعاءه انتحال هذا الكلام معارض بما ادّعاه أولاً من أنّ نهج البلاغة من كلام أميرالمؤمنين (عليه السلام)، وانّه عرف ذلك بتعرّفه على الأُسلوب الذي يتميّز به أميرالمؤمنين (عليه السلام) في الكلام.
ثانياً: انّ فحوى هذا الكلام الدال على حرمة العمل بالرأي والقياس في الأحكام الشرعية متواتر عن الأئمة (عليهم السلام)، فلا داعي للإماميّة إلى انتحاله ونسبته إلى أميرالمؤمنين (عليه السلام)، ففي الموجود الثابت عندهم كفاية.
ثالثاً: لا نسلّم وجود إجماع من قبل الصحابة على صحة العمل بالرأي والقياس في الأحكام الشرعية، نعم عمل به بعض الصحابة ممّن أعرض عن الثقلين ـ الكتاب والعترة ـ ولا ضير عليهم لأنّه كان يلهيهم عن محضر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلّم) وسماع الأحكام الصفق بالأسواق [سنن أبي داود 2: 515 ح5182].
رابعاً: الإدّعاء بأنَّ أميرالمؤمنين (عليه السلام) كان يجتهد ويقيس ثمّ يتراجع إلى غيره غير مسلّم، نعم ذهب النظام وغيره إلى ذلك محتجّين بروايات موضوعــة أو لها محامل صحيحـة ، ولقـد ناقشها الشيخ المفيد في الفصول المختارة [2: 167 ـ171] وردّ على النظام بما لا مزيد عليه، وقال في آخره: «والذي يدلّ على بطلان جميع ما حكاه هذا الرجل عنه انّه لو كان له أصل لكان أوكد الحجج لأعدائه من الخوارج وغيرهم، ممّن رأى حربه بالبصرة أو صفين، ومن قعد عن نصرته، ولشيعة عثمان خاصة، حتى كانوا يحتجّون به عليه في المقامات، ويشنّعون به على رؤوس الجماعات، وقد أحطنا علماً باحتجاج جميع من خالفه، أو قعد عنه أو نازعه وحاربه ، فلم نجد فيه انّهم قالوا له : تناقضت أحكامك ، واختلفت آراؤك، ولا فضل لك في علم، لأنّ زيداً نازعك فأفحمك، وعثمان خالفك فأسكتك، وتحكم بشيء ثمّ تندم عليه، وتخطئ في أمر وتعترف بخطئك فيه ثمّ تقيم عليه، بل وجدنا جماعة من ذكرنا معترفين بفضله (عليه السلام) في العلم والشجاعة والحكم والقرابة بالنبي والزهد، وإنّما كان بعضهم يتعلّق عليه بايوائه قتلة عثمان ـ وهم أهل البصرة والشام ـ وبعضهم بتحكيم الرجال ـ وهم أهل النهروان ـ وبعضهم بقتال أهل القبلة ـ وهم المعتزلة للقتال ـ وقد اجتهدت بنو اُميّة السفيانية والمروانية في نحت مثالب له (عليه السلام)، فلم يحفظ عن أحد منهم في سلطانه سقط له في العلم، ولا تجهيل في الأحكام … ولو كان شيء مما حكاه إبراهيم عنه محفوظاً لنشره من ذكرناه، وفي عدول الكافة عنه سيّما الخوارج ـ وقد جرت بينه وبينهم المناظرات ـ دليل على وقاحة إبراهيم وبهته وعناده».
هذا بالاضافة إلى ما ورد عنه (عليه السلام) قوله: «لو قضيت بين رجلين بقضيّة ثمّ عادا إليّ من قابل، لم أزدهما على القول الأوّل لأنّ الحقّ لا يتغيّر» [التهذيب للطوسي 6 :296 ح32].
خامساً: ما ذكره من الزيدية ومخالطتهم للأئمّة (عليهم السلام) ورواية ما يدلّ على العمل بالقياس غير صحيح، وقد ردّ عليه السيد يحيى بن إبراهيم الجحّاف (ت1102) من أعلام الزيدية في كتاب «إرشاد المؤمنين 1: 435» وقال: «إنّ أئمة أهل البيت عند الإمامية هم اثنا عشر خليفة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) كما قال: «سيكون بعدي اثنا عشر خليفة» آخرهم المهدي عجل الله فرجه، في حين أنّ الزيدية لا يحصرون الأئمة بعدد خاص، وهم يفترقون في إمامة أهل البيت عن الإمامية في زيد بن عليّ وأبنائه، فإنّ الزيدية تدّعي انّه الإمام بعد أبيه زين العابدين، والإمامية ترى انّ الإمامة لأخيه الإمام محمّد الباقر (عليه السلام)، فكيف يكون مخالطة الزيدية لأئمة أهل البيت كمخالطة الإمامية لهم، انّ ما ينقله الزيدية من نصوص القياس والاجتهاد فهو مرويّ عن أئمتهم لا عن أئمة أهل البيت، فانظر وراجع وتبصّر».
سادساً: ادّعاء المعارضة فرع ثبوت كلا الطرفين من الأخبار، ولا معارضة مع ما تواتر عن الأئمة (عليهم السلام) من حرمة العمل بالرأي والقياس، وانّ أوّل من قاس إبليس، فلا تساقط.
وختاماً: إنّ الاجتهاد المرفوض في كلام أميرالمؤمنين، هو الاجتهاد المرادف للرأي والقياس، لا الإجتهاد الذي بمعنى استفراغ الوسع وبذل الجهد في استنباط الأحكام من أدلّتها الشرعية، فلا إشكال في هكذا اجتهاد، بل أنّ الأئمة (عليهم السلام) كانوا يعلّمون أصحابهم كيفية الاجتهاد الصحيح كما أجاب الإمام الصادق (عليه السلام) لمن سأله انّه عثر وانقطع ظفره وجعل عليه مرارة فما يصنع للوضوء، فقال له (عليه السلام): «يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عزّ وجلّ:(مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج) إمسح عليه». [الكافي3 :33 ح4] وورد أيضاً: «إنّما علينا أن نلقي الاُصول وعليكم أن تفرعوا». [الوسائل 18: 41 ح51].