الخطبة 114: في الاستسقاء
ومن خطبة له (عليه السلام) في الاستسقاء([1])
اللَّهُمَّ قَدِ انْصَاحَتْ([2]) جِبَالُنَا، وَاغْبَرَّتْ أَرْضُنَا، وَهَامَتْ([3]) دَوَابُّنَا، وَتَحَيَّرَتْ في مَرَابِضِهَا([4])، وَعَجَّتْ عَجِيجَ الثَّكَالَى عَلَى أَوْلاَدِهَا، وَمَلَّتِ التَّرَدُّدَ في مَرَاتِعِهَا، وَالْـحَنِيْنَ إِلَى مَوَارِدِهَا. اللَّهُمَّ فَارْحَمْ أَنِينَ الآنَّةِ، وَحَنِينَ الْـحَانَّةِ!
اللَّهُمَّ فَارْحَمْ حَيْرَتَهَا فِي مَذَاهِبِهَا، وَأَنِينَهَا في مَوَالِجِهَا([5])! اللَّهُمَّ خَرَجْنَا إِلَيْكَ حِينَ اعْتَكَرَتْ([6]) عَلَيْنَا حَدَابِيرُ([7]) السِّنِينَ، وَأَخْلَفَتْنَا مَخَايِلُ الْـجَودِ([8])؛ فَكُنْتَ الرَّجَاءَ لِلْمُبْتَئِسِ، وَالْبَلَاغَ لِلْمُلْتَمِسِ. نَدْعُوكَ حِينَ قَنَطَ الأَنَامُ، وَمُنِعَ الْغَمَامُ، وَهَلَكَ الْسَّوَامُ([9])، أَلاَّ تُؤَاخِذَنَا بِأَعْمَالِنَا، وَلاتَأْخُذَنَا بِذُنُوبِنَا، وَانْشُرْ عَلَيْنَا رَحْمَتَكَ بِالسَّحَابِ الْـمُنْبَعِقِ([10])، وَالرَّبِيعِ الْـمُغْدِقِ([11])، وَالنَّبَاتِ الْـمُونِقِ([12])، سَحّاً وَابِلاً ([13]) تُحْيِي بِهِ مَا قَدْ مَاتَ، وَتَرُدُّ بِهِ مَا قَدْ فَاتَ.
اللَّهُمَّ سُقْيَا مِنْكَ مُحْيِيَةً مُرْوِيَةً، تَامَّةً عَامَّةً، طَيِّبَةً مُبَارَكَةً، هَنِيئَةً مَرِيعَةً([14])، زَاكِياً([15]) نَبْتُهَا، ثَامِراً([16]) فَرْعُهَا، نَاضِراً وَرَقُهَا، تُنْعِشُ بِهَا الضَّعِيفَ مِنْ عِبَادِكَ، وَتُحْيِي بِهَا الْـمَيِّتَ مِنْ بِلاَدِكَ! اللَّهُمَّ سُقْيَا مِنْكَ تُعْشِبُ بِهَا نِجَادُنَا([17])، وَتَجْرِي بِهَا وِهَادُنَا([18])، وَيُخْصِبُ بِهَا جَنَابُنَا وَتُقْبِلُ بِهَا ثِمَارُنَا، وَتَعِيشُ بِهَا مَوَاشِينَا، وَتَنْدَى بِهَا أَقَاصِينَا، وَتَسْتَعِينُ بِهَا ضَوَاحِينَا([19])، مِنْ بَرَكَاتِكَ الْوَاسِعَةِ، وَعَطَايَاكَ الْـجَزِيلَةِ، عَلَى بَرِيَّتِكَ الْـمُرْمِلَةِ([20])، وَوَحْشِكَ الْـمُهْمَلَةِ.
وَأَنْزِلْ عَلَيْنَا سَمَاءً مُخْضِلَةً([21])، مِدْرَاراً هَاطِلَةً، يُدَافِعُ الْوَدْقُ([22]) مِنْهَا الْوَدْقَ، وَيَحْفِزُ([23]) الْقَطْرُ مِنْهَا الْقَطْرَ، غَيْرَ خُلَّبٍ بَرْقُهَا([24])، وَلا جَهَامٍ([25]) عَارِضُهَا، وَلا قَزَعٍ رَبَابُهَا([26])، وَلا شَفَّانٍ ذِهَابُهَا([27])، حَتَّى يُخْصِبَ لإِمْرَاعِهَا([28]) الـمُجدِبُونَ، وَيَحْيَا بِبَرَكَتِهَا المُسْنِتُونَ([29])، فَإِنَّكَ تُنْزِلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا، وَتَنْشُرُ رَحْمَتَكَ، وَأَنْتَ الْوَلِيُّ الْـحَمِيْدُ.
تفسير ما في هذه الخطبة من الغريب:
قوله(عليه السلام): «انْصَاحَتْ جِبَالُنَا» أي: تَشَقّقَتْ مِنَ المُحُولِ، يُقَالُ: انْصَاحَ الثّوْبُ: إذَا انْشَقّ، وَيُقَالُ أيْضاً: انْصَاحَ النّبْتُ وَصَاح وَصَوّح: إذَا جَفّ وَيَبِسَ. وَقَوْلُهُ: «وَهَامَتْ دَوَابّنَا» أيْ: عَطشَتْ، وَالْهيَامُ: الْعَطَشُ.
وَقَوْلُهُ: «حَدَابِيرُ السّنِينَ» جمع حِدبار، وهي: الناقَة التي أنضاها السّيْرُ، فشبّه بها السنة التي فشا فِيهَا الجَدْبُ، قَالَ ذوالرّمّةِ:
حَــدَابِيرُ مَــا تَنْفَــكُّ إلّا مُنَـــاخَــةً عَلَى الْـخَسْفِ أوْ نَرْمِي بِهَا بَلَـــداً قَفْرَا
وَقَولُهُ: «وَلا قَزَعٍ رَبَابُهَا»، الْقَزَعُ: الْقِطَعُ الصّغَارُ الْـمُتَفَرّقَهُ مِنَ السَّحَابِ. وَقَوْلُهُ: «وَلاَ شَفّانٍ ذِهَابُهَا» فَإنّ تَقْديرَهُ: وَلا ذَاتَ شَفّان ذِهَابُهَا. وَالشّفّانُ: الرّيحُ البَارِدَةُ. وَالذِّهَابُ: الأمْطَارُ اللّيّنَةُ، فَحَذَفَ (ذَاتَ) لِعِلْمِ السّامِعِ بِهِ.
[1] ـ روى الشيخ الصدوق (ت 381) في من لا يحضره الفقيه 1: 535 ح 1501، الى قوله(عليه السلام): «وأنينها في مرابضها» وكذلك الشيخ الطوسي (ت 460) في التهذيب 3: 154 ح 11، واستشهد ابن الأثير (ت 606) في النهاية 1: 337، وابن منظور (ت 711) في لسان العرب 4: 175 بقوله(عليه السلام): «اللّهمّ انّا خرجنا إليك حين اعتكرت علينا حدابير السنين». [2] ـ انصاحت: تشققت وجفّت. [3] ـ هامت: عطشت. [4] ـ المرابض: مبارك الغنم. [5] ـ الموالج: المداخل. [6] ـ اعتكرت: تتابعت وترادفت. [7] ـ قال الرضي: الحدابير جمع حدبار، وهي الناقة التي أنضاها السير، فشبّه بها السنة التي فشا فيها الجدب. [8] ـ مخائل: جمع مخيلة، سحاب تخال فيها المطر، والجَود ـ بالفتح ويُقرأ بالضمّ أيضاً ـ : المطر الغزير. [9] ـ السوام: الأنعام السائمة. [10] ـ المنبعق: المتصبب بشدّة. [11] ـ المغدق: الكثير الماء. [12] ـ المونق: المعجب. [13] ـ سحاً: صباً، والوابل: المطر الشديد. [14] ـ المريعة: الخصيبة. [15] ـ زاكياً: ناسياً. [16] ـ ثامراً: مثمراً. [17] ـ النجاد: جمع نجد، وهو ما ارتفع من الأرض. [18] ـ الوهاد: جمع وَهْد، ما انخفض من الأرض. [19] ـ الضواحي: البراري، أو حوالي البلد، وضاحية كل شيء ناحيته. [20] ـ المرملة: الفقيرة. [21] ـ مخضلة: مِن أخضل المطر الأرض إذا بلّها بالماء. [22] ـ الودق: المطر. [23] ـ يحفز: يدفع بشدّة. [24] ـ البرق الخلّب: الذي لا غيث فيه كأنّه خادع. [25] ـ سحاب جهام: لا ماء فيه. [26] ـ الرباب: السحاب، والقزع ـ كما قال الرضي ـ : القطع الصغار من السحاب. [27] ـ الشفان: الريح الباردة، والذهاب: الأمطار اللينة. [28] ـ الإمراع: الإخصاب. [29] ـ المسنتون: المقحطون.